رواية أنا لها شمس 01 من الفصل الخامس
الجزء الاول من الفصل الخامس
«ليت زماني يعود بي حين التقيتك صدفتًالأتروى النظر داخل عينيكَ واستشف مكرهما
ونأيت بحالي من الجحيم وكفيتها شر البلية، يا ليت.»
خاطرة إيثار الجوهري
بقلمي «روز أمين»
عودة لما قبل ثمانية أعوامًا.
ترجلت من إحدى وسائل المواصلات الجماعية(الميكروباص) حيث استقلته من القاهرة وهي عائدة من جامعتها بالقاهرة ليوصلها إلى إحدى مُدن محافظة كفر الشيخ،فهي طالبة بالفرقة الرابعة حيث انها أختارت دراسة إدارة الأعمال بكلية التجارة،تسكن بالمدينة الجامعية وتعود لمنزلها بنهاية كل أسبوع لتقضي إجازتها في منزل أبيها،وقفت تتطلع حولها لانتظار إحدى السيارات لتقلها لقريتها،كان يقود سيارته ليتوقف في الموقف الخاص بالسيارات ينتظر إبن عم له قادم بإحدى الحافلات من القاهرة ليقله بصحبته للبِلدة،خرج من السيارة وتوقف ينتظر وصول قريبه وأثناء تفقدهُ للمكان وقعت عينيه عليها لتلتمع عينيه بوميض مما يدل على إعجابه الشديد،اتسع بؤبؤ عينيه وهو يرى ملامح وجهها الجميلة والتي جذبته منذ النظرة الاولى، ناهيك عن تقاسيم جسدها الانثوي الذي جعل من لعابه يسيل وهو ينظر لها باشتهاء،برغم ارتدائها لكنزة واسعة وتنورة طويلة تغطي جميع ساقيها وحجابًا إلا أن أنوثتها الجذابة كانت طاغية،كانت كلوحة حب تنبض بالحرية والحياة،وقفت تتطلع حولها تترقب ظهور إحدى السيارات وهي تنظر بساعة يدها بتأفف ظهر على وجهها،واثناء مراقبته لتلك الفاتنة التي ظهرت من العدم وكأنها حورية هبطت من السماء إستمع لرنين هاتفه الجوال ليجيب سريعًا بانفاسٍ متقطعة جراء دقات قلبه العالية كطبول الحرب:
-أيوا يا أحمد إنتَ فين؟
أجابه الأخر بهدوء:
-إنتَ اللي فين،أنا خلاص داخل على الموقف
واستطرد باعلام:
-شفتك خلاص يا ريس
في تلك اللحظة رأها تقترب من إحدى السيارات التي توقفت لتستقل مقعدًا بجانب النافذة ليُشير سريعًا لإبن عمه يستعجله على التحرك وبعد لحظات انطلق متتبعًا السيارة ليسأله الأخر:
-فيه إيه يا عمرو، مالك يا ابني مسروع كده ليه؟
-الميكروباص اللي قدامنا ده فيه حتة بنت، تقول للقمر قوم وأنا أقعد مكانك... نطقها وهو يحاول الوصول للسيارة ومجاورتها ليقول الاخر بضحكة:
-بنت!، قولت لي، بقى هي الحكاية طلع فيها بنت
نطق سريعًا بصوتٍ مسحور:
-ومش أي بنت يا أحمد،دي طلقة،عليها جوز عيون،يجننوا
ظل يقود حتى أصبحتا السيارتين متجاورتين لينظر على تلك المتكئة برأسها على زجاج النافذة شاردة بنظرها للسماء لتنعكس أشعة الشمس على أشعة عينيها لتضيف بريقًا جعل من عينيها مبهرة لمن ينظر بها برغم الحزن الساكن بداخلهما،مال ابن عمه برأسه للأمام ليقول بانبهار ظهر بصوته:
-طلع معاك حق يا عمرو،البنت جامدة بجد
ابتسم وهو يرفع قامته للأعلى ليقول بتفاخر:
-كان عندك شك في ذوقي ولا إيه
-الشهادة لله طول عمر ذوقك لا يُعلى عليه يا ابن عمي،بالذات في صنف الحريم ...قالها مفخمًا به ليفرد الأخر جسده أكثر بعدما أشعره حديث ذاك المنافق بتفرده،حول بصره مرةً آخرى لينظر على تلك الشاردة التي لا تبالي بمن حولها سوى ملكوتها الخاص وشعورها الدائم بالوحدة الذي يلازمها اينما ذهبت حتى بحضرة عائلتها،مر أكثر من خمسة عشر دقيقة وهو يراقب تلك الجميلة حتى زفر أحمد وتحدث متسائلاً:
-هنوصل لحد فين باللي بتعمله ده يا باشا، إوعى تقولي إنك هتفضل ماشي وراها لحد بلدها؟
اجابه وعينه على من خطفت لُبه:
-ياريت كان عندي وقت كنت مشيت وراها،أدينا ماشيين لحد ما نوصل لكُبري بلدنا،بعد كدة مش هقدر أكمل علشان حِنة أمل بنت عمك جمال،أبويا كلمني وانا مستنيك في الموقف،كان متضايق وبيستعجلني علشان أقف مع شباب العيلة في توضيب كوشة العروسة
تأفف أحمد ليقول متهكمًا:
-يادي كوشة العروسة اللي صدعونا بيها، أبويا كمان وجع دماغي من الصبح،مكانش عاوزني أروح الشغل أصلاً،بالعافية أقنعته إني هاجي قبل التجهيزات ما تبدأ لولا كدة مكنتش هعرف أفلت منه
واستطرد بجبينٍ مقطب:
-بيقولوا عاملين الكوشة فوق سطح بيت عمك جمال عشان البنات والستات ياخدوا راحتهم بعيد عن قعدة الرجالة.
أجابهُ بلامبالاة وهو يتابع تلك الجميلة:
-يعملوها مكان ما يريحهم، مش فارقة كتير.
بعد قليل تملل أحمد بجلسته وشعر بالضجر من تصرفات ذاك المعتوه المسحور بالجميلات وزفر ليتحدث مستفسرًا بعدما وجده يقف عند كل محطة تقف بها السيارة وينتظر حتى يتأكد من شخصية المترجل:
-وبعدين يا ريس،هنفضل كدة لحد امتى،الميكروباص بيقف تقريباً دقيقتين عند كل محطة.
-بطل رغي يا أحمد ولو مش عاجبك إنزل وشاور لأي ميكروباص يوصلك...قالها بعدما سَأم من تملله ليجلس الاخر صامتًا حتى إقتربا من محطة قريتهم حينها استمع لرنين هاتفه وكان المتصل والده،نصر البنهاوي،زفر بضجر بعدما استمع لتوبيخ الاخر له وهو يستعجله،فقاد بسرعة فائقة ليتخطى السيارة ليميل تارة القيادة لليسار متجهًا لداخل قريته،وما ان اختفت سيارته للداخل حتى توقفت تلك السيارة لتترجل هي منها،توجهت لمنزل والدها وما أن ولجت للداخل حتى تهللت أسارير والدها حين رأها ليتحدث بترحاب:
-حمدالله على السلامة يا"إيثار"
نظرت بابتسامة واسعة لذاك الذي يتوسط الأريكة الخشبية بوسط منزله المتواضع لتقترب من جلوسه وهي تُمسك كف يده وتميل بطولها لتضع قُبلة احترام فوق كفه ليمرر والدها كفه الحنون فوق حجاب رأسها،رفعت عينيها لتتحدث بابتسامتها البشوشة:
-الله يسلمك يا بابا،إزي صحتك
ابتسم والدها ليجيبها:
-أنا بخير يا بنتي والحمدلله، إنتِ اللي عاملة ايه، طمنيني عليكِ
خرجت منيرة من غرفة الفُرن البلدي وهي تحمل بين يديها إناءًا من الفخار الساخن بواسطة قطعتين من القماش القطني المستهلك ليحمي كفيها من سخونة الإناء،تحدثت سريعًا وهي تقترب من تلك المائدة الخشبية المنخفضة(الطبلية):
-وسعي مكان على الطبلية لطاجن الرز يا إيثار
أسرعت لتفسح المكان،وهتفت وهي تنظر للطعام الموجود داخل الإناء بلونه الذهبي المُشهي:
-يا سلام يا ماما على الريحة
واسترسلت بملاطفة وهي ترفع قامتها بمزاح:
-الست منيرة بعون الله أحسن واحدة بتعمل طاجن رز معمر بالحمام في كفر الشيخ كلها
ابتسمت بوهنٍ لتشير لها بكفها إلى حُجرتها الخاصة بها:
-طب روحي غيري هدومك بسرعة عشان تيجي تغرفي باقي الأكل وتطلعيه مع مرات أخوكِ
قطبت جبينها لتتحدث باستياء مصطنع تداري به ألم قلبها المنشطر:
-هو أنتِ على طول كدة معايا يا ماما،طب خديني في حضنك ولا حتى قولي لي حمدالله على السلامة
زفرت لتهتف بضجر:
-يا بنتي سيبك من المياعة اللي إنتِ فيها دي وخلصي
واستطردت بملامح وجه مكفهرة:
-إخواتك لسة راجعين من الأرض كانوا شغالين فيها من صباحية ربنا وواقعين من الجوع
تنفست بيأسٍ ومالت برأسها للأسفل لتتحدث بصوتٍ خفيض مليئًا بخيبة الأمل:
-حاضر يا ماما
انصرفت منيرة لغرفة الخبيز لتباشر ما تبقى داخل الفرن ووقفت هي تنظر لأثرها،تنهد والدها بأسى لأجلها،يشعر بتمزق روحها الدائم من معاملة تلك القاسية لها،لذا يحاول جاهدًا أن يعاملها بلُطفٍ وحنان ليقوم بتعويضها ولو قليلاً، تحدث في محاولة منه للتخفيف من وطأة حزنها:
-متزعليش من أمك يا "إيثار"،دي غلبانة،أمها ماتت وهي صغيرة واتربت على إيد مرات أبوها وشافت معاها اللي متستحملوش عيلة عندها تمن سنين
واسترسل مبررًا:
-غصب عنها يا بنتي،هي بتحبك،بس مبتعرفش تعبر
رسمت على ثغرها إبتسامة مُرة لتومي برأسها وانسحبت سريعًا للداخل لتبديل ثيابها،ولجت إلى المطبخ لتجد زوجة شقيقها الكبير"نسرين"تسكب الطعام فاقتربت منها قائلة بصوتٍ خالي من المشاعر:
-إزيك يا نسرين
إلتفت برأسها لتتطلع إليها بابتسامة صفراء لتقول بترحيبٍ مفتعل يرجع لحقدها الشديد لها:
-حمدالله على السلامة يا إيثار،جيتي إمتى محسيتش بيكِ؟
بصوتٍ هاديء أجابتها وهي تتناول أحد الصحون استعدادًا لنقله للخارج:
-لسة واصلة من حوالي ربع ساعة
-ده عزيز هيفرح قوي لما يشوفك،إنتِ متعرفيش هو بيحبك قد إيه...قالتها برياء قابلته الأخرى بتنهيدة هادئة لتيقنها أن شقيقها لا يحمل بقلبه الحب لأحداً سوى حاله وولدهُ وتلك العقربة وفقط
خرجت وجدت أشقاءها الثلاثة قد ولجوا لبهو المنزل واصطفوا حول المائدة الأرضية بجوار والدهم، ما أن رأها" أيهم" شقيقها الذي يصغرها بثلاثة أعوام حتى انتفض وهب واقفاً ليحمل عنها الصَحن ليضعه سريعًا ثم يعود محتضنًا إياها قائلاً بحفاوة وترحاب:
-وحشتيني،جيتي إمتى؟
إبتسامة واسعة بينت صفي أسنانها ظهرت على محياها لتجيبه بسرورٍ:
-لسة جاية من شوية،إنتَ عامل إيه في مذاكرتك، طمني عليك
-محدش راحمني ولا مقدر إني في ثانوية عامة، وعلى إيدك لسة راجع من الشغل في الارض بعد عزيز ما صمم ياخدني معاه...نطق كلماته المتذمرة وهو يرمق عزيز بنظراتٍ ساخطة ليقول الاخر بحدة:
-إنتَ مقضيها نوم طول اليوم ومبتفتحش كتاب ولما عزيز ياخدك تساعد وتعمل حاجة مفيدة يبقى كفر
مدت له يدها قائلة بعينين متطلعة:
-أزيك يا عزيز
أجابها دون أن يلتفت إليها قائلا بجمود بعدما مد يده وسحبها سريعًا:
-الله يسلمك يا إيثار
تألمت على معاملة شقيقها الجافة التي لا تجد لها سببًا، حولت بصرها إلى وجدي الذي قابلها بابتسامة صافية مما جعل قلبها يهدأ قليلًا وما زاد من سعادتها هو حديثه المريح:
-حمدالله على سلامتك يا إيثار، حطي اللي في إيدك وتعالي إقعدي جنبي علشان تتغدي
ابتسمت بسعادة لاهتمامه ليكمل والده على حديثه قائلاً بلُطف وهو يشير بجواره:
-تعالي يا بنتي تلاقيكي ميتة من الجوع
كادت أن تتحرك باغتتها تلك التي احتضنتها من الخلف وهي تقول بحفاوة:
-حمدالله على سلامتك يا قمر، وأنا أقول البيت منور كدة ليه
ابتسمت لترحاب "نوارة" زوجة "وجدي" شقيقها الاوسط والتفت لها تبادلها الاحضان لتهتف بسعادة لتلك البشوش تحت غضب نسرين التي رمقتها بحقدٍ ظهر بعينيها ولم تستطع تخبأته:
-ازيك يا نوارة
واسترسلت وهي تنظر لبطنها المنتفخ جراء وصولها لشهرها التاسع بالحمل:
-عاملة ايه وأخبار غانم الصغير إيه؟
-محدش هيسمى غانم تاني،هو غانم الصغير واحد بس...جملة جافة نطقت بها "نسرين"تنم عن غيرتها الواضحة بعدما علمت نوع المولود،بينما نطق عزيز بتفاخر:
-اللي سبق كل النبق يا نسرين
قالها ومد يده ليجذب صغيره ذو الثلاثة أعوام والذي أطلق عليه إسم غانم تيمنًا باسم والده للتباهي ليجلسهُ بأحضانه، ثم حول بصره ليتطلع لشقيقه مسترسلاً بمشاكسة حادة:
-قول لعمك يختار له إسم تاني يا غانم باشا
ابتسامة خافتة ارتسمت على ثغر"وجدي"ليداري بها حرجه من حديث عزيز الذي اتخذ من اسم والدهُ حكرًا،ليتحدث والدهما بتعقل:
-وفيها إيه لما اخوك يسمي إبنه على اسم جده يا عزيز، ولا تكونش خدت الإسم على حسابك إنتَ ومراتك
احتدم صدره غيظًا من دفاع والده ليتحدث بصفاقة وحقد:
-طب ولازمته إيه التقليد يا ابا،ما الأسامي كتير يختار منها براحته هو ومراته،ولا هو الكل لازم يبص لعزيز ويقلده في أي حاجة يعملها
قطبت جبينها بتعجب وهي ترى هجوم شقيقها الحاد وطباعة التي تزداد سوءًا يومًا تلو الأخر وبالاخص بعد زواجه من تلك الحقودة نسرين،احتدت ملامح غانم وهم بالحديث لولا صوت وجدي الذي قاطعه قائلاً كي ينهي ذاك الجدال الدائر:
-لا تقليد ولا غيره يا عزيز، إبني هسميه خالد إن شاءالله
هز الأب رأسه بيأسٍ ثم تنفس ونظر لصغيرته قائلاً:
-أقعدي يا بنتي كلي
واسترسل وهو ينظر لزوجتي نجلاه برحمة:
-أقعدوا يا بنات واندهوا لحماتكم
هتفت منيرة التي ولجت للتو ممسكة بصينية كبيرة:
-أنا جيت أهو
هتف أيهم بعينين تلتمعان وهو يتطلع لصينية اللحوم قائلاً بحفاوة:
-دكرين بط وحمام مع بعض،أم عزيز مطرياها علينا على الأخر النهاردة
ابتسمت لتقول بعدما افترشت الأرض لتجاور زوجها:
-مش شقيانين من صباحية ربنا في شغل الأرض
قالتها لتحول بصرها إلى إيثار وهي تقوم بتقطيع اللحوم بكفي يديها:
-وكمان علشان أختك تتقوت بلقمة حلوة، تلاقيها يا حبة عيني مبتدوقش الزفر (اللحوم بأنواعها) إلا كل فين وفين
اشتدت سعادتها عندما رأت إهتمام والدتها بها ولو بكلمة، لطالما تمنت أن تأخذها تلك القاسية بداخل أحضانها كما تفعل الأمهات سواءًا من تشاهدهم في الأفلام والمسلسلات عبر جهاز التلفاز أو صديقاتها اللواتي دائمًا ما كُن يبلغاها عن مدى حنان أمهاتهِن
أمسكت منيرة بقطع اللحم وبدأت بتوزيعها بالأول زوجها ويليه عزيز أول من رأت عينيها وصاحب النصيب الأكبر من إمتلاك قلبها، يليه وجدي ثم أيهم وأتى ترتيبها بعدهم وتلتها زوجتي نجليها،بدأ الجميع بالتهام الطعام بنهمٍ يرجع لشدة مذاقة الطيب،بسطت منيرة يدها بقطعة اخرى من اللحم وهي تناولها إلى نوارة لتتحدث بارتياح:
-كلي دي يا نوارة علشان اللي في بطنك يتغذى
ابتسمت لها وتناولتها قائلة بحفاوة ترجع لاهتمام والدة زوجها:
-تسلم إيدك يا ماما
لوت نسرين فاهها مغمغمة بضيق:
-كلي يا حبيبتي كُلي
سأل وجدي شقيقته باهتمام وهو يلوك الطعام بفمه:
-عاملة إيه في المذاكرة يا إيثار
هتفت بحماسٍ أضفى زهوًا فوق ملامحها ليزيدها جمالاً:
- الحمدلله،بذاكر وبجتهد علشان أجيب تقدير زي كل سنة،دكتورة هالة رئيسة القسم أكدت لي إني لو جبت تقدير السنة دي كمان والسنة الجاية هتعين معيدة وبعدها هكمل دراسات عُليا
قالتها بانتشاء اختفى حال سماعها لصوت عزيز الحاد حيث هتف بفمٍ مليء بالطعام وهو يرمقها بازدراء:
-كلام إيه الفارغ اللي بتقوليه ده،إحمدي ربنا إننا خلناكي كملتي تعليم أصلاً
واستطرد موضحًا:
-بعد إمتحاناتك بأسبوع هبعت لـ سليم إبن خالك علشان ييجي يتمم خطوبته عليكِ، الراجل كتر خيره صبر على دلعك كتير، والسنة اللي باقية لك إبقي كمليها في بيته لو وافق
أثنت على حديثه منيرة لتقول بتصديق:
-عين العقل يا عزيز، البنت في الأخر ملهاش إلا الجواز والسُترة
لتهتف نسرين وهي ترمق إيثار بتشفي ظهر جليًا بصوتها ووجها الضاحك:
-يسلم فُمك يا حماتي
لم تكترث لتلك الثرثارة وكأنها والعدم سواء وأيضًا جنبت حديث والدتها لتيقنها أنها تابع لنجلها البكري ليس إلا، لتنظر إليه بفزعٍ هاتفة بصوتٍ مضطرب حاولت أن تتحكم فيه قدر الإمكان إحترامًا لوالدها ولعدم إثارت غضب ذاك الجاحد:
-بغض النظر عن موضوع تكملة تعليمي اللي لسة هنتكلم فيه
قالتها بحدة تنم عن صدمتها لتسترسل متسائلة باستنكار:
-لكن أنا أمتى قولت إني موافقة على جوازي من سليم؟!
لتستطرد معترضة:
-وبعدين سليم مكملش تعليمه،ده معاه دبلوم يا عزيز!
رمقها مستنكرًا ليقول بغلاظة:
-ومن أمتى البنت كان ليها رأي في جوازها يا ست إيثار،وماله الدبلوم ما أنا كمان معايا دبلوم،ولا إكمنك كملتي تعليمك هتتكبري على أهلك وتكسري كلمة أبوكِ؟
وإلى هنا لم يستطع غانم الصمت أكثر بعدما أثار حفيظته حديث نجله البكري ليقول بنبرة صارمة:
-وأبوها لسة عايش وحِسه في الدنيا ومداش كلمة لخالك علشان أختك تكسرها يا سي عزيز، ولا أنتَ خلاص إعتبرتني ميت وبتتحكم في أختك قدامي
حزنت نوارة لأجل تلك المشتتة بين الجميع أما عزيز فابتلع الطعام بصعوبة لتقول منيرة في مساندة منها ودفاعًا عن نجلها:
-بعد الشر عنك يا أخويا، عزيز عاوز المصلحة لأخته،البت مهما اتعلمت وراحت وجت أخرتها الجواز
-حرام عليكِ يا ماما، بطلي تيجي عليا علشان خاطر ترضي عزيز...نطقتها بعينين لائمتين لامعتين تأثرًا بملئهما بالدموع التي أبت النزول إمتثالاً لكرامتها لتهتف الأخرى باقتناع:
-أخوكِ أكتر واحد عارف مصلحتك
بدا الامتعاضُ على وجهها ليقول وجدي بهدوء:
-إهدي يا إيثار وفكري بعقلك شوية،وبصراحة بقى عزيز معاه حق في اللي قاله
اتسعت عينيها بذهول لتهمس بصدمة:
-حتى أنتَ كمان يا وجدي!
أجابها بالمنطق محاولاً إقناعها:
-يا حبيبتي إفهمي،إنتِ خلاص داخلة على واحد وعشرين سنة،وده سن حلو قوي للجواز، بعد كدة فرصك كل يوم هتقل،ويا ستي لو على السنة الباقية أنا هبقى اشرط على سليم يخليكي تكملي
قطبت جبينها متعجبه منطقه الغريب المنافي مع تفكيرها العصري لتنظر لوالدها مستنجدة ليهدأها بحديثه قليلاً:
-كملي أكلك يا بنتي وبعدين نبقى نتكلم.
ابتسمت بخفوت ليباغتها صوت والدتها الحاد:
-والله ماحد مقوي قلبها على أخوها الكبير ومخليها تكسر كلمته غيرك يا غانم،أخوها بيختار لها الصالح،ده غير إني اديت كلمة لـ عزت أخويا إن أول ما إيثار تخلص السنة دي هنقرا الفاتحة ونجيب الشبكة والفرح في شهر تسعة
-والله عال يا ست منيرة،قاعدة تتكلمي وتتفقي مع أخوكِ ولا عملالي حساب... استمعت لمناوشات والديها وأصوات أشقائها الثلاث ونسرين التي استغلت الوضع وبدأت الأصوات تتعالى وتتداخل لتهب واقفة وما أن تحركت بقدميها للخارج حتى أوقفها صوت والدها الحزين قائلاً:
-رايحة فين يا بنتي،تعالي كُلي نايبك.
شبعت يا بابا...بالكاد خرجت كلماتها بصوتٍ مختنق وبتخاذل واضح وانكسار ظهر بوضوح فوق ملامحها فرقت نظراتها على الجميع قبل أن تهرول لغرفتها ليهتف والدها معنفًا الجميع:
-حرام عليكم يا ناس،محلالكمش الكلام غير والمسكينة قاعدة على الطبلية، زي ما تكونوا مستخسرين اللقمة فيها ومش عاوزينها تاكلها بنفس
استند بكفيه المشققتين من أفعال الزمن على طرفي المنضدة ليقوم بظهرٍ محني لتسأله منيرة باستغراب:
-رايح فين يا غانم، إقعد يا راجل كمل أكلتك
-سديتوا نفسي إنتِ وعيالك...قالها لينسحب للخارج ليقول عزيز بنبرة حاقدة:
-رايح يراضي السنيورة حبيبة أبوها، طب والله لو أنا اللي سيبت الاكل وقومت ولا كان اتهزت له شعرة
-ماخلاص بقى يا عزيز، كمل أكلك وإنتَ ساكت...قالها وجدي ليرمقه الاخر بنظرة حاقدة أما أيهم فنهض بحدة لتسأله والدته متعجبة:
-رايح فين إنتَ كمان؟
-طالع أشم شوية هوا قدام الباب،قاعدتكم تخنق...قال جملته الاخيرة وهو يرمقهم باشمئزاز وانطلق للخارج خزنًا على شقيقته،زفرت منيرة لتهتف بسخطٍ وهي تنظر للطعام:
-يا ستار يارب،اللقمة اتسممت علينا زي ما تكون مبصوص لها
اكفهرت ملامح عزيز ليهتف بحقدٍ:
-البركة في بنتك،كل ما تيجي تولع البيت حريقة
قطب وجدي جبينه ليتساءل مستفسرًا بتعجب:
-وإيثار ذنبها إيه في اللي حصل؟!
اتسعت عيني نسرين لتقول بوقاحة:
-وده سؤال بردو يا وجدي،ما كل اللي حصل ده بسبب كلامها ورفضها لجوازها من سليم إبن خالك
وبفمٍ ملتوي استرسلت باستنكار وحقدٍ ظهر بعينيها:
- قال وإيه عايزة تكمل علام تاني بعد الكلية،ده بدل ما تحمد ربنا إن عزيز رضي يخليها تكمل بعد الثانوية ومقعدهاش
هزت نوارة رأسها بيأسٍ لبجاحة تلك التي تتدخل في شؤون الجميع دون حياء وتألم داخلها لما تحمله في قلبها من مَعَزَّة لتلك الهادئة "إيثار" لتتحول عيني وجدي لمشتعلة وهو يقول معترضًا:
-اللي يسمع كلامك يفتكر إن عزيز هو اللي بيصرف عليها يا ست"نسرين"،ربنا يخلي أبوها ويديه طولت العمر.
-وانتَ إيه اللي مزعلك يا عم وجدي،وبعدين مراتي مغلطتش في حاجة، أنا أخوها الكبير وكلمتي تمشي سيف على رقبتها،والله لو أبوك يحوش إيده عنها لكنت مشيتها لكم زي السيف وعلمتها الأدب...قالها بنظرة صارمة وتوعد، هم الأخر ليتحدث اوقفه صياح منيرة التي هتفت بعدما فاض الكيل بها:
-كفياكم مناقرة،هي اللقمة دي مش مكتوب لها تتبلع من سكات النهاردة ولا إيه
نظرا كلٍ منهما للاخر بحدة بالغة وكأنهما ثوران يتصارعان داخل حلبة ليسحب كل منهما بصره عن الاخر ويستكملا تناول طعامهما بغضبٍ شديد
يتبع